لفلي سمايل

عاصم بن ثابت رضي الله عنه

تاريخ الإضافة : 25-1-1432 هـ

عاصم بن ثابت رضي الله عنه

 

* خرجت قريشٌ بقضّها وقضيضها ( جميعها ) ، وسادتها وعبيدِها إلى لقاءِ محمدِ بن عبد الله في أحد...

فقد كانت الأضغانُ تشحنُ ( تملأ ) صدورها شحناً، والثاراتُ لقتلاها في بدرٍ تستعرُ ( تتقد ) في دِمائها استعاراً.

ولم يَكفِها ذلك، وإنما أخرجت معها العقائلَ من نساء قريشٍ؛ ليحرضن الرِّجالَ على القتالِ، ويُضرمن الحمية في نفوسِ الأبطالِ، ويشدُدن عزائمهم كلما وَنوا أو ضعُفوا.

وكان في جملةِ من خرجت معهن: هندُ بنتُ عتبة زوجُ أبي سفيان، ورَيطة بنتُ مُنبهٍ زوجُ عمرو بن العاص، وسُلافة بنتُ سعدٍ ومعها زوجها طلحة وأولادها الثلاثة: مسافعٌ، والجُلاسُ وكِلابٌ، ونساءٌ كثيراتٌ غيرهن.

 

* * *

- ولما التقى الجمعان عند أحُدٍ وأخذتْ نارُ الحرب تستعرُ، قامت هندُ بنتُ عُتبة ومن معها من النسوة، فوقفن خلف الصفوفِ، وأخذن بأيديهن الدفوفَ، وجَعلن يضربن عليها مُنشدات:

إن تقبلوا ( أي على الحرب ) نعانق ونفرُش النمارق ( الوسائد والمتكآت ) ..

أو تدبـــروا نفارِق فِراق غير وامقْ ( غير محبِّ )

فكان نشيدُهُنَّ هذا يُضرمُ في صدور الفرسانِ الحمية، ويفعلُ في نفوس أزواجهن فعلَ السحر ...

ثم وضعتِ المعركة أوزارَها، وكتبَ فيها النصرُ لقريشٍ على المسلمين فقامت النسوة وقد استفزّتهُن حُمياً ( أي أثارتهن خمرة النصر ) الظفر وطفقن يَجُسن ( أي يدرن عائثات فساداً ) خلالَ ساحة المعركةِ مُزغرداتٍ...

وأخذن يُمثلن بالقتلى أفظعَ تمثيلٍ: فبقرن البُطون، وسَملن العُيون، وصلمن الآذان، وجَدعن الأنوفَ.

بل إن إحداهُن لم يشف غيظها إلا أن جعلت من الأنوفِ والآذان قلائد وخلاخيلَ وتزينت بها انتقاماً لأبيها وأخيها وعمِّها الذين قتلوا في بدر.

 

* * *

- لكن سلافة بنت سعدٍ كان لها شأن أترابها ( لداتها وصويحباتها ) من نساء قريش...

فقد كانت قلقةً مضطربةً، تنتظر أن يقبل عليها زوجها أو أحد أبنائها الثلاثة، لتقف على أخبارهم وتشارك النسوة الأخريات فرحة النصر.

بيد أنَّ انتظارها قد طال عَبثاً، فأوغلت ( دخلت بعيداً ) في أرضِ المعركةِ، وجعلتْ تتفحصُ وجوهَ القتلى، فإذا بها تجددُ زوجَها صريعاً مُضرَّجاً بدمائه ( مصبوغاً بدمائه ).

فهَبتْ كاللبُؤة ( أنثى الأسد ) المذعورةِ، وجعلت تطلق بصرَها في كلِّ صوبٍ بحثاً عن أولادِها: مُسافع وكلابٍ والجُلاس.

فما لبث أن رأتهُم مُمدَّدين على سُفوحِ أحد...

أما مُسافع وكلابٌ ؛ فكانا قد فارقا الحياة، وأما الجُلاس فوجَدته وما تزال به بقية من ذماء ( بقية النفس ).

 

* * *

- أكبتْ سُلافة على ابنها الذي يعالجُ سكراتِ الموتِ، وَوضعتْ رأسه في حِجرها، وجعلت تمسحُ الدماء عن جبينهِ وفمهِ، وقد يبسَ الدمعُ في عينيها من هول الكارِثة.

ثم أقبلت عليه وهي تقول: من صرَعَك يا بني؟ فهمَّ أن يجيبها لكنَّ حَشرَجَة الموتِ منعتهُ، فألحتْ عليه بالسؤال فقال: صَرعني عاصم بن ثابت، و.... صرع أخي مُسافِعاً، و.... ثم لفظ آخِر أنفاسِه...

 

* * *

- جُنَّ جنونُ سلافة بنتِ سعدٍ، وجَعلت تعولُ وتنشج ( ترفع صوتها بالبكاء ) ، وأقسَمت بالاتِ والعُزى ألا تهدأ لها لوعَة أو ترقأ ( تجف ) لعينيها دَمعة إلا إذا ثأرت لها قريشٌ من عاصمِ ابن ثابتٍ، وأعطتها قِحفَ رأسه ( عظم رأسه المجوف ) لتشربَ فيه الخمر ...

ثم نذرَت لمن يأسِرُه أو يقتله ويأتيها برأسِه، أن تعطِيه ما يشاءُ من مُنفس المال.

فشاع خبرُ نَذرها في قريشٍ، وجعلَ كل فتىً من فتيان مكة يَتمنى أن لو ظفِرَ بعاصم بن ثابت، وقدَّم رأسه لسُلافة لعله يكونُ الفائز بجائزتِها.

 

* * *

- عاد المسلمون إلى المدينةِ بعدَ أحُدٍ، وجعلوا يتذاكرون المعركة وما كان فيها، فيترحَّمون على الأبطالِ الذين استشهدوا وينوهون بالكماةِ الذي أبلوا وجالدوا، فذكروا فيمن ذكروهم عاصمَ بن ثابتٍ، وعجبُوا كيفَ اتفق له أنْ يُردي ثلاثة إخوةٍ من بيتٍ واحدٍ في جُملةِ من أردَاهم.

فقال قائلٌ منهم: وهل في ذلك من عجب؟!

أفلا تذكرون رسول الله صلوات الله وسلامه عليه حين سألنا قبيلَ بدرٍ ( كيف تقاتِلون؟ ) فقام له عاصمُ بن ثابتٍ، وأخذ قوسَه بيده وقال: إذا كان القومُ قريباً مني مائة ذراعٍ كان الرَّميُ بالسهام...

فإذا دَنوا حتى تنالهُم الرماحُ كانت المداعَسة ( المطاعنة بالرماح ) إلى أن تتقصَّفَ الرِّماح...

فإذا تقصفَتِ الرماحُ وضعناها وأخذنا السيوفَ وكانت المُجالدَة ( المضاربة بالسيوف )...

فقال عليه الصلاة والسلام: ( هكذا الحربُ... من قاتلَ فليقاتلْ كما يُقاتلُ عاصم.. ).

 

* * *

- لم يمضِ غيرُ قليلٍ على أحُدٍ حتى انتدبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ستةً من كرامِ الصَّحابة لبعثٍ ( الأمر ) من بعوثِه، وأمّرَ عليهم عاصِمَ بن ثابت.

فمضى النفرُ الأخيارُ لإنفاذ ما أمَرهُم به النبيُّ عليه الصلاة والسلام، وفيما هم في بعض الطريق غير بعد عن مكة عَلمت بهم جماعة من هُذيلٍ؛ فهبُّوا نحوَهم مُسرعين، وأحاطوا بهم إحاطة القيدِ بالعُنق.

فامتشق عاصمٌ ومن معهُ سُيوفهُمْ وهموا بمُنازلةِ المُطبقين عليهم.

فقال لهم الهُذليون: إنكم لا قبلَ لكم بنا ( لا طاقة لكم بنا ولا قدرة لكم علينا ) ، وإننا والله لا نريدُ بكم شرّاً إذا استسلمتم لنا، ولكم على ذلك عهدُ الله وميثاقه...

فجعل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يَنظرُ بعضُهم إلى بعضٍ كأنهم يتشاورون فيما يصنعون...

فالتفتَ عاصمٌ إلى أصحابه وقال: أما أنا فلا أنزِل في ذمةِ مُشركٍ، ثم تذكر نذرَ سُلافة الذي نذرَته، وجرَّدَ سَيفه وهو يقولُ: اللهمَّ إني أحْمَى ( أدافع عن دينك ) لدينكِ وأدافع عنه...

فاحمِ لحْمي وعظمي ولا تظفرْ بهما أحداً من أعداءِ الله.

ثم كرَّ على الهُذليين، وتبعهُ اثنان من أصحابهِ، وظلوا يقاتلون حتى صُرِعوا واحداً بعد آخر.

أما بقية أصحابهِ فاستسلموا لآسريهم، فما لبثوا أن غدروا بهم شرَّ غدرَة.

 

* * *

- لم يكن الهُذليون في بادئ الأمرِ يعلمون أنّ عاصمَ بن ثابتٍ هو أحدُ قتلاهم، فلما عَرفوا ذلك فرِحوا به أشدَّ الفرح، ومَنوا أنفسهم بجزيل العطاءِ.

ولا غروَ ... ألم تكن سلافة بنتُ سعدٍ قد نذرَت إن هي ظفِرت بعاصمِ ابن ثابتٍ أن تشربَ في قحفِ رأسه الخمر؟.

ألم تكن قد جعلت لمن يأتيها به حياً أو ميتاً ما يشاءُ من المال؟!

 

* * *

- لم يمضِ على مصرع عاصِمِ بن ثابتٍ بضعُ ساعاتٍ حتى علمت قريش بِمقتلِه، فقد كانت هُذيلٌ تقيم قريباً من مكة.

فأرسلَ زعماءُ قريشٍ رسولاً من عندهم إلى قتلةِ عاصمٍ يطلبون منهم رأسَه؛ ليُطفئوا غلة سُلافة بنتِ سعدٍ ويُبرّوا قسمها، ويُخففوا بعضَ أحزانِها على أولادها الثلاثِة الذين صَرعهم عاصمٌ بيده...

وحَملوا الرسولَ مالاً وفيراً، وأمَروه أن يَبذله للهُذليين بسخاءٍ لقاءَ رأسِ عاصمٍ.

 

* * *

- قام الهُذليون إلى جَسدِ عاصمِ بن ثابتٍ ليفصلوا عنه رأسه؛ ففوجئوا بأسرَاب النحلِ وجماعاتِ الزنابير ( حشرة كالنحل غير أنها لا تنتج العسل ) قد حَطت عليه، وأحاطت به من كلِّ جانبٍ...

فكانوا كلما راموا ( أرادوا ) الاقتراب من جُثتهِ طارت في وجوههم، ولدغتهُم في عيونهم وجِباههِم وكل موضعٍ في أجسادهم، وذادتهم عنه ( دفعتهم عنه ) ...

 

- فلما يَئسوا من الوصولِ إليه بعد أن حاولوا ذلك الكرَّة تِلوَ الكرَّة؛ قال بعضُهم لبعض: دَعوه حتى يجِنَّ عليه الليلُ ( يطبق عليه الليل ) ؛ فإنَّ الزنابير إذا حلَّ الظلامُ؛ جلت عنه وخلته لكم.

ثم جلسوا ينتظرون غيرَ بعيد...

* * *

- لكِنه ما كاد ينصرمُ النهار ( يمضي وينقطع ) ويقبلُ الليلُ حتى تلبدَت السماءُ بالغيوم الكثيفة الدّكن ( الغيوم السود ).

وأرعَد الجوُّ وأزبدَ ... وانهمَر المطرُ انهماراً لم يشهد له المُعمَّرون مثيلاً منذ وُجدوا على تلك الأرض ...

وسرعان ما سالتِ الشعابُ وامتلأتِ البطاحُ وغُمِرتِ الأوديَة...

واكتسحَ المِنطقة سيلٌ كسيلِ العرم...

فلما انبلجَ الصبحُ قامت هُذيلٌ تبحث عن جَسدِ عاصمٍ في كل مكان؛ فلم تقف له على أثر...

ذلك أنَّ السيلَ أخذه بعيداً بعيداً ... ومضى به إلى حيث لا يعلمون...

فلقد استجاب الله عز وجل دَعوة عاصمِ بن ثابتٍ فحمى جسدَه الطاهِرَ من أن يُمثلَ به ( العبث بجسده وتقطيعه ) ...

وصان رأسَه الكريمة من أن يُشربَ في قِحفها الخمرُ...

ولم يجعَل للمُشركين على المؤمنين سبيلاً...

مواضيع ذات صلة

أسيد بن الحُضير صور من حياة الصحابة أسيد بن الحُضير

إضف تعليقك

فضلا اكتب ماتراه فى الصورة

تعليقات الزوار (3)

ملاحظة للأخوة الزوار : التعليقات لا تعبر بالضرورة عن رأي موقع لفلي سمايل أو منتسبيه، إنما تعبر عن رأي الزائر وبهذا نخلي أي مسؤولية عن الموقع..

محمد السلمي

قصة رائعة ومؤثرة جزاكم الله خير

نورالايمان

قصة رائعة وجميلة وجزاكم الله خيرا على هذه القصة

ام عبد الرحمن

بارك الله لنا في هالقروب الرائع وبارك جهود كل القائمين عليه اللهم آمين....